كانت دِفنة قد اعتادت أن تبدأ يومها بالمشي في
الصباح الباكر. لم يكن الأمر مجرد رياضة بالنسبة لها، بل لحظة هدوء تحتاجها قبل أن
ينشغل العالم من حولها. فذلك الوقت تحديدًا كان له طعم مختلف: البحر هادئ، والهواء
نقي، والأشجار تتحرّك برفق مع نسيم الفجر. وكان هذا كله يمنحها طاقة تجعل يومها
أسهل.
وعندما كانت تجد صعوبة في النهوض، كانت تذكّر
نفسها ببساطة:
“الحركة بركة… قومي، فمهامك ستنتهي أسرع.”
فتستجمع قوتها وتخرج.
وبعد المشي، كانت تعتاد أن تختار كل يوم مقعدًا
مختلفًا على الساحل لتجلس وتشرب قهوتها. كانت تراقب الناس من حولها وتستمتع برؤية
تفاصيل الحياة الصغيرة: عائلة مستعجلة، أم تمسك بيد طفلها، رجل يخرج للعمل، شابة
تتحدث في الهاتف… وكانت هذه الملاحظات تمنحها شعورًا بأنها ترى العالم بوضوح أكبر.
في هذا الصباح، جلست على مقعد جديد. وما إن بدأت
تحتسي قهوتها حتى لاحظت ازدحامًا غير معتاد في هذا الوقت المبكر. بعض الناس يمشون
بسرعة، آخرون مبتسمون، وآخرون يحدّثون أنفسهم كأنهم يستعدون ليوم طويل. تساءلت في
نفسها:
“هل هناك شيء مميز اليوم؟”
ثم تذكرت أنه يوم السوق الأسبوعي.
ابتسمت وقالت داخليًا: “واضح أن جلستي ستكون
طويلة اليوم.”
مرت من أمامها أمّ مع طفلها يبدوان أنهما خرجا
لشراء ملابس الشتاء. قال الطفل بإلحاح:
“ماما، لا أريد معطفي القديم… جمال لديه واحد
جديد، أريد مثله.”
فأجابته الأم بلهجة مطمئنة:
“حاضر يا حبيبي… سندبّر الأمر.”
ثم التقطت أذنها حديث صديقتين تسيران بجانبها:
“الشتاء جاء، ولا يوجد عندي شيء مناسب… يجب
أن أشتري ملابس فورًا.”
وبالقرب منهما، كان أب يسير مع ابنه الصغير، فقال
له الابن بحماس:
“بابا، ماذا نأكل على الفطور اليوم؟ دعنا
نفطر معًا فطورًا مرتبًا.”
واختفيا بين الزحام.
ولمحت أيضًا شابًا وفتاة يظهر عليهما أنهما يستعدان
للزواج. كانت الفتاة تتحدث بترتيب ظاهر:
“لا أريد أن ينقص شيء في البيت… يجب أن أفكر
بكل التفاصيل.”
واصلت دِفنة مراقبة هذا التنوع من الناس، كلٌّ
مشغول بأمر يخصه:
من يفكّر في تغيير أثاث بيته، ومن يخطط لشراء
ملابس جديدة، ومن يريد أن يفطر في مكان مختلف، ومن يستعدّ لمرحلة جديدة من حياته…
وبينما كانت تتابع هذه المشاهد العادية والبسيطة،
خطرت على بالها صورة أخرى لا تشبه ما تراه أمامها إطلاقًا: غزة.
تذكّرت الأطفال والأمهات والآباء هناك، وما
يواجهونه منذ السابع من أكتوبر 2023. مدينة كاملة تحوّلت إلى ركام، وناس بلا مأوى
ولا طعام ولا ماء، ولا حتى الأمان الذي يعدّ أبسط حقوق البشر. شعرت فجأة أن العالم
أصبح مقسومًا إلى نصفين:
حياة تسير بشكل طبيعي… وحياة تتوقف عند حدود
الألم.
في غزة…
كانت الأمهات يفكّكن قطعًا قديمة من ملابسهن
ليحاكوا منها قبعات وجوارب لأطفالهن، بينما في الجهة الأخرى… كان بعض الأطفال
يحصلون على معطف جديد لأن صديقهم جمال حصل على واحد جديد.
في غزة…
كان الناس يبحثون عن أي غطاء يقيهم المطر والبرد،
بينما هنا… يرى البعض أن بيوتهم ليست واسعة بما يكفي، رغم أنها آمنة ودافئة.
في غزة…
كانوا ينتظرون المطر ليشربوا، بينما الآخرون
يتحيرون بين هذا العصير أو ذاك، أو بين نوعيّن من الحليب.
في غزة…
كان الخبز يصنع من طعام الحيوانات أحيانًا، بينما
هنا… يختار البعض بين طبق دجاج بصلصة معينة أو لحم بطريقة مختلفة.
في غزة…
كانت الأمهات تبحث عن أي شيء يسدّ رمق أطفالهن،
بينما أمهات هنا يحتارن بين صنع بيتزا أو طبق حلويات.
في غزة…
كان الشهداء يُجمعون في أكياس بلاستيكية… بينما
آباء هنا يفكّرون في أي مطعم يأخذون أبناءهم.
في غزة…
كان الطفل يُسأل: “ماذا تريد أن تكون عندما
تكبر؟”
فيجيب بصدق مؤلم:
“في غزة لا نكبر… الأطفال يموتون قبل أن
يكبروا.”
بينما هنا… يحلم الأطفال بمهن الغد ومستقبلهم.
كانت الجراح تُعالج بلا مخدر ولا أدوات مناسبة،
بينما هنا… تثير إصابة بسيطة كثيرًا من القلق والضجيج.
نعم، الجوع والشبع، الفرح والحزن، الرغبة في
التجمّل أو الراحة… كلّها مشاعر طبيعية في حياتنا. لكن ما هو غير طبيعي هو أن
نبالغ في عيشها وكأن العالم كله بخير.
الحياة مستمرة…
الأعراس، الامتحانات، الأمراض، الأعياد، الرحلات—all ذلك جزء من واقعنا.
لكن ألا يليق بنا أن نعيش هذه التفاصيل ونحن
نتذكر أن هناك من يعيشون في الجانب الآخر بأضعاف الألم؟
ألا يليق بنا أن تكون أفراحنا أخف قليلًا، كأن
بيننا من نفتقده؟
أن تكون موائدنا أقل إسرافًا؟
أن نستهلك ماءنا وطعامنا بقدر الحاجة فقط؟
أن نجرّب أن نعيش، ولو بدرجة بسيطة، شعور “الوجود
مع النعمة لكن عدم التعلق بها”؟
ربما لا نستطيع أن نكون هناك بأجسادنا، لكن
بإمكاننا أن نكون معهم بصدق مشاعرنا.
أن نقول لله:
“نعم، نحن آمنون… لكننا لا ننسى من يفقدون
الأمان.”
“قد لا نستطيع المساعدة بأيدينا… لكن قلوبنا
معهم.”

قد لا نستطيع المساعدة بأيدينا… لكن قلوبنا معهم.
YanıtlaSil